بعد مرور عدة سنوات التقينا -أنا وعبد الكريم الماحي – رحمه الله، تخطفنا الحياة من الابداع ويسرقنا هذا الأخير عنوة من الحياة و نظل كسفينة تأرجحها مياه الأيام، التقينا بعد توالي السنوات بإعدادية للامريم إن لم تخني الذاكرة سنة 2008 حيث حضرنا فعاليات الأسبوع الثقافي المنظم من طرف إدارة الإعدادية التي درست بها الصف الإعدادي و قد عاتبني يومها كوني قرأت بلغة موليير ويظهر تبرمه وردة فعله من خلال الصورة التي توثق للقاء.
كان أول لقاء لي بالراحل عبد الكريم الماحي سنة 1993 بدار الشباب حمان الفطواكي حيث منا معا من رواده أنذاك، سنة 1997 تم تقديمه كزجال شاب و ذلك خلال اللقاء الأدبي الأول حول الشعر أي واقع و أية أفاق بتاريخ 26 و 27 أبريل 1997، المنظم من طرف نادي النسيم للتربية والثقافة والفن الذي كنت من بين أعضائه، وقد قمت خلال اللقاء بدور المنشطة لفقراته ،وقتها كان الراحل الغندور عبد الكبير هو الذي يتدبر أمر إدارة دار الشباب.
الحياة محطات ولكل محطة معنى، التقيت الراحل الماحي في وقت كان الزجل كصنف أدبي يحاول رسم طريقه بمشقة، بعد ذلك تكررت اللقاءات حيث تم بتنسيق مع المكتبة الوسائطية والمعهد الفرنسي تنظيم ليلة خاصة بالزجل، وبما أنني كنت من رواد المعهد الفرنسي ٱنذاك؛ فقد كان التنسيق وكانت الأمسية التي حضرها كتاب وأدباء مرموقين ناهيك عن عشاق فن الزجل؛ كان المكرم خلال اللقاء الزجال أحمد لمسيح الذي لم يحضرلظروف خارجة عن ارادته.
استمرت الحياة و القدر في تيسير اللقاءات فاستضافتنا زاوية سيدي اسماعيل منبع الكلام وكان منسق اللقاء هناك ناسج الحب على طريقة الكبار سي عز الدين الماعزي، وفي سنة 2014 وبمناسبة ربيع الشعر وبتنسيق الكاتب و الناقد الراحل إبراهيم الحجري طيب الله ثراه تمت استضافتنا بإعدادية ابن باجة بسبت الدويب حيث كان للقاء نكهة أخرى، تفاعل التلاميذ مع المعاني برمتها وتجاوبوا مع غايات اللقاء الذي حضره كمنشط الأستاذ رحال نعمان.
توالت الأيام فأصبح للزجل عدة أصوات تصدح هنا وهناك بإقليم الجديدة، كثرت اللقاءات التي توجت بمهرجان ٱزمور للزجل و الذي أصبح حينها قبلة لكل مبدعي الشعر الشعبي سواء على المستوى الوطني أو العربي ..
قبل الكتابة و قبل الغوص في الذات يجب على الكاتب أن يتوضأ بماء المحبة والنور، المرحوم عبد الكريم الماحي الشاعر ” التروبادور ” الذي صاحب الفكرة والمعنى بطريقته التي تختزل معنى الحياة حينا ومعنى الموت أحيانا أخرى.
ماذا بعد؟
كما قال الشاعر محمود درويش بعد وفاة الشاعر معين بسيسو : مات البطل عاش الجبل.
هاهو قد ترجل و اختفى وللأبد، لكنه الماحي الذي يغيب وتظل روحه بيننا تذكرنا أن الكتابة تأخذ ولا تعطي، تأخذ راحتك و تعطيك حرقة السؤال، الكتابة تجردك من ماهية الحياة فيسكنك الموت، بياض ورق يجذبك لقتل البراءة التي تسكن بين ضلوعك، البياض توأم الموت لا الحياة، فالحياة تعشق الالوان والأصوات، والموت يميل للبياض والسكون.
من الميت الآن نحن أم هو ؟ من الذي يحرس المدينة الان ؟
اجتمع فيك أيها الماحي ما تفرق في غيرك، رغم شراستك رحمك الله فقد كانت روحك هشة حد التيه، رغم رسمك بيد مرتعشة لذات جريئة فقد كنت خجولا تجيد الاختباء وراء طرق تواصل توهم المخاطب أنك لا تهتم للدنيا إن أدربت أو أقبلت، ولا يهمك إن جرح الآخر بماء اللغة النارية التي كنت صانعها.
بينك وبين المعنى الموغل في الذات ستار شفاف، تزيحه كلما فاض كأس الكلام.
عبد الكريم الماحي رحمه الله كان من طينة الشعراء الذين احترقوا بنار المعنى والانزياح، عاش حرا بما يكفي القصيدة، إنه من طينة الشعراء ” التروبادور”، كلامه حكمة وصمته إزاحة الستار عن كوامن المعنى، هل يستوي من عاش الحرمان بكل تلاوينه ومن سمع عنه فقط؟ فهنا يكن الفرق وهنا تتجذر ماهية الإنسان والأشياء، فهل حقق سلطان الزجل ما كان يصبو إليه؟ هل استطاع وهو العارف بدواليب الكلام أن يصل سدرة معنى القول؟ هل يستوي من يحترق بلهيب الكلام ومن يكتفي بالمألوف؟.
لقد كان الراحل الماحي يمتح من بئر المعاني المتقدة التي تتناثر شرارتها فإن فهمها المتلقي فذاك وان لم يفهمها اكتفى بالإصغاء، الزجل ذاكر الشعب، إنه السفينة التي تسافر بنا إلى كنه الكون برمته، فشتان بين من اكتوى بنار “القلم” -بتسكين القاف و اللام-، و من اكتفي بالارتواء من تجارب الغير، أليست سرقة موصوفة مع سبق الإصرار أن تعيد كتابة ما كتبه الغير؟ بين التناص و التلاص قاب قوسين أو أدنى.
عبد الكريم الماحي من طينة الشعراء الكبار، فهو الذي طوع المعنى ولم يستسهل فعل الكتابة الدخول لمحراب الكلام المرصع كالدخول لدهاليس عصية على غير العارفين بها والدخول إليها والخروج منها كلما ضاقت بهم الأرض بما رحبت.
دارت الأيام وعكفت رقبتها، التقيت الراحل في حفل تكريمي رمضان المنصرم، وراعني أن رأيته على غير عادته يطلب كرسيا حتى يتسنى له الجلوس والقراءة، الذي قرأ ليلتها على منصة مسرح الحي لم يكن عبد الكريم الماحي الذي نعرفه جميعا، نعرف كيف يراقص الركح وكيف يصدح عاليا وهو يسافر بنا إلى سماء المعنى السابعة، نعرف جميعا أنه يعيد كتابة النص وهو يقرأ في نهاية الحفل، سألته عن حاله وأحواله، كان جوابه بنظرات أبلغ من الكلام فقلت له: ” اتهلى فالصحة راهي رأس المال”، فحرك رأسه مجيبا.
ذات يوم أجد خبر مرضه منشورا على صفحات الفيس بوك، الذي يقوم مقام” البراح” في واقعنا الراهن، اتصلت به فإذا به يجيب بصوت واهن، بعدها علمت أنه بالمستشفى، اتصلت بالصديق العربي الشوين فأكد لي الخبر واتفقنا زيارته، وبالفعل بعد خروجي من العمل ذهبت الى أكديطال لأجده قد غير المقام وكانت الوجهة مستشفى محمد الخامس، كان الشاعر العربي الشوين يتصل بي حتى لا أتيه بين أجنحة المستشفى المترامي الأطراف.
استقبلني و على محياه ابتسامة رغم وجعه، ليست تلك الابتسامة الماكرة رحمه الله، ابتسامة كأنه فرح أننا نلتف حوله، أصدقاء وزملاء الحرف نحتضن هذا الصديق الذي اشتهى جسده النحيل سلطان الأسقام.
قال فيما قال رحمه الله : ” راك مجربة” نعم أعرف معنى الوجع و أعرف أيضا أننا حينما نصاب بأمراض مستعصية على القول قبل التقبل يجب أن نتسلح بالصبر وباليقين والتقبل، “مجربة سلطان الاسقام و شربت من كاس واللي مجرب الألم و مجرب يموت لو شي عزيز على غفلة يبقى غالط فهاد الدنيا “، جربت كرسي “الشيميوطيرابي” و ذقت الموت و أنا بالغرفة البيضاء، والتقينا بعدها مرات محسوبة، ها هو قد رحل لنفهم الدرس جيدا على بساطته، درس التآخي و التآزر في المحن، ” تكتب حتى تعيا وفي الاخر تكون نقطة النهاية حفرة وسبع شبورة وكتانة بيضا، لنجعل البياض ديدننا و فعلنا الذي به نسمو عن تفاهات الأمور، فلترقد روحك الطاهرة في سلام.
هانت يا سلطان الاسقام
غيبت سلطان الكلام
واش هرب المعنى
واش فاض كاس المحنة
حتحت الكلام
شوف واش يقدر يغوت
جرح المعنى وشوف واش سال شي دم
هانا ها انت والموت يحوم على شلة ريوس
من هم السؤال تبات عساسة
هانا ها انت وشوف شكون يقدر
يساوي خيوط المعنى
ويفرز الحاير من الناير؟
الصورة رقم 1 ورقم 2 بالثانوية الإعدادية للامريم والصورة 3 بزاوية سيدي اسماعيل.
الكاتبة: حبيبة زوغي