الرئيسية / أدب وثقافة / الحلقة الأولى عن الراحل عبد الكريم ماحي

الحلقة الأولى عن الراحل عبد الكريم ماحي

الحلقة الأولى عن الراحل عبد الكريم ماحي رحمه الله من سلسلتي «كتاب متسكعون بمدينة الجديدة» أعيد نشرها تحت طلب الكثير من محبيه

الماحي (اللئيم) المحبوب: 1/2

بوجه متجعد أحمر قريب من البُني الأسود وشعر أكرد مقصوص حديثا كرجل زنجي يحمل حقيبة جلد سوداء قديمة، ولا شيء يغطي ندوب تخدش وجهه المكسو بلحية خفيفة مشذبة، حتى اللحية لا تخفي خطوط الندوب، في البداية كان  يتكلم بإشارة دون ثرثرة، لقد وصل إلى مرحلة عمرية بات يقلل من الكلام.

أُقدم له الكرسي المفروش ب “تيشورت” ثخين أصفر أتقي به المَقعدة الصلبة المسطحة للكرسي البلاستيكي، صرت أعاني قليلا جراء جلوسي الطويل بالشارع، بعد الصيف ما عادت الزبونات يتوافدن بكثرة كما في السابق على “أكسيسوارات” تزيين الشعر، الزبونات من يجعلنك تقف وتغير جلوسك في كل مرة، ستتحرك غصبا عنك كثيرا وبالتالي لن تتأذى مؤخرتك.

لقد بدأت أشعر بحريق بواسير على مستوى حلقة الدبر في الفترة الأخيرة، لذلك أداريه بافتراش “تيشورت” أو أي حائل رطب، لكنني فضلت إعطاءه للسيد ماحي  احتراما لمؤخرته الضامرة بدون لحم، طبعا احتراما للمؤخرة لا لشيء الآخر، الشيء الآخر لا يعنيني، عندما نجلس طويلا نحتاط لمؤخراتنا لأنها تتضرر بالجلوس على أي مقعد صلب، وعلى كل حال، السيد ماحي سيحظى بمؤخرة مُتصلبة منهوكة لو أطال المكوث كما تحصلتُ عليها، لكنه لم يطل مكوثه، سرعان ما غادرني.

يجلس الرجل بجانبي، وما من شك أنه سيلاحظ الفرق بين أفخادنا المتجاورة، فخدان مثيرتان رياضيتان بارزتان وفخدان ضامرتان مسلوتتان.

عندما أريد أن أعذب شخصا أدفع له كرسيا بقوائم قصيرة، يجلس مقوسا ومع البرد سرعان ما يمل وينصرف، فكرت في تعذيب الماحي، لكنه معذب أصلا، أحدق في ملامحه وملابسه المثيرة للحَكة متحدثا مع نفسي:

لكي تكون زجالا يجب عليك أولا أن تموت جوعا، أو أن تعيش منبوذا مثل هذا المخلوق

تسالمنا:

أهلا، أفتقدك يا ماحي، كيف حالك، إجلس.

يتقبل الكرسي ويقبض على ذراعه بيدين واهنتين ويقول:

قسما، دائما أمر من هنا لكنني لا أعثر عليك،

ربما يمر وقت ذروة الزحام، أقول هذا وأخفي عنه أنه ربما يكون مارا وهو سكران قادما من الحانة، أنا هنا وللأبد يا ماحي، كل يوم عمل، في نفس المكان وفي نفس الزمان، نفس الأيام ولو تغيرت الأسماء،  السبت أشبه بالاثنين والجمعة،  لا فرق طالما ليس تمة تطور فنحن في نفس الزمان وفي نفس المكان. نحن نقف في أماكننا وأزمنتنا

– ليتنا نقف ولا نتحرك ولا نتطور،  ما تمة تطور يا غزلي، تمة تقهقر، نحن نتقهقر. ثم ينتر ما تبقى من نترات سيجارته،

يجلس بالقرب ما مَكنني أن أتأمل منحوتات الزمن على جلد ملامحه الزنجي خلف شعيرات لحيته المشذبة وتجاعيده الضاربة في القدم، يضع رجلا على رجل هيكله النحيف، بدون لحم فيبدو “البنطال” مهلهلا بشكل واضح،  يؤرجح رجله الموضوعة فوق الرجل الأخرى مسلوتة من اللحم، لم يساعده الزجل أن يحظى بهيكل عظمي ممتلئ باللحم الثري.

انتهى من السيجارة، وبدأ يفتش تحت قدميه عن مكان يرمي عقب السيجارة الممصوص إلى آخره

هل تبحث عن مطرح قمامة يا ماحي،

أكيد، أنت لا تدخن، لا أرى أية أعقاب عند قدميك أو بجانب المكان الذي تجلس فيه، واحتراما لك سأرمي الازبال بعيدا عنك

لابد أنك تتحامق عليّ. لا بأس، يا رجل  لا بديل، إرم في أي مكان طالما لا توجد مطارح،  بعد قليل، وبعد أن تذهب، وفي نفس المكان الذي تجلس فيه قريبا مني سيأتي الفاسي وسيدخن كل ما تبقى له من سجائر لم يدخنها في مقهى العنبر، سيدخن ولن يستأذن، مع الفاسي اللعين يتلاشى الأدب وكل شيء مع الدخان.

يحرك الماحي عينيه، يقبض على شاربه بشفته السفلى عندما سمع إسم الفاسي،  يظن أنه رجل يكتب الشعر، نسيت أن أخفي الأسماء عن الماحي، إذا عرف أنه زجال سوف يلدغ الفاسي هو الآخر، إنه متأهب للدغ أي زجال كعقرب، لذلك لا أذكر أسماء، انتظره حتى يسمي أي شخص لنتحدث عنه، يقول بأنه وحده الزجال في الجديدة، كل المثقفين يلدغهم، “ما كين لا مثقفين لا ستة حمص”، ثم يسألني

“شكون الفاسي”؟

شرحت له أن الأمر يتعلق برجل مسرف في التدخين مدمن، حتى يتأكد أنه لا علاقة بالشعر، رجل يجلس هنا وسيجعل الأرضية مَداسا لأعقاب السجائر ولفائف النفحة.

تقف زبونتان، تلتقط الأولى شداد غطاء شعر ومِشد شال ودبابيس رقيقة، ولحسن الحظ تقاطع نميمتنا الزبونتان بين الفينة وأخرى، في البداية أرحب بهن، مهمتي الأولى الترحيب بالزبونات الجميلات، أستقبلهن بالترحيب و أخاطبهن بلهجة رقيقة تدربت عليها حديثا علَّمتنيها حرفة “الأكسيسوارات” النسائية، لهجة مختلفة تماما عن لهجة استقبال الزبائن من جنس الذكور.

أهلا آنستي، لا إجابة من الآنسة، حسنا، لا مشكلة، أشعر بالإهانة طالما لم تقابل الزبونة حفاوتي بنفس الحفاوة. كنت مخطئا، اعتقدتُ انهن من النوع الذي تفاتحه بكيف حالك، امورك بخير؟.

وتشرع تحكي لك عن مشكلاتها، ذريعة إلى حديث أكثر دفئا، لكنها تنظر إليك تقول لا بأس وتُنهي الموضوع.

أجلس بينما تنتقي ما تريد، تلتقط مجموعة مشابك نحاسية درهمان للوحدة، تمدهم لي، ألففها في ورقة مقطوعة من كتاب مدرسي لحلول الرياضيات بالعربية، لقد انتهت صلاحية الرياضيات العربية في التعليم العمومي، وتم استعاضتها برياضيات الفرنسية مع بداية الموسم الدراسي في شهر تسعة 2022.  لففتها كعطار يلفف أوقية فلفل أحمر مسحوق، أقتصد في استعمال أكياس البلاستيك، تنقدُني الفتاة بورقة نقدية من فئة عشرين درهما، أدسها مباشرة في الجيب دون تصفيفها مع رزمة الأوراق النقدية، مخافة أن يطلع الماحي على الماصّو ونوللي في سلفني تندير وأشياء أخرى خارج التقافة.

جلسنا  مدة قصيرة نتحدث، بضع دقائق فقط

-ماذا تفعل الآن يا ماحي

-لا أفعل أي شيء، فقط أتسكع

أعرف أن كل ما يجيد فعله هو الزجل لكن بدون عروض وصعود منصة الإلقاء، حتى الفيسبوك دمر صفحته، هو متوقف الآن، أوقف نفسه بنفسه، يعتقد أنهم أوقفوه، وأنا لا اوافقه الرأي، قد يكون وجهه المتجعد هو سبب المشكلة وليست في لغة الزجل المهجورة التي لم تعد مقبولة كما يدعي

أقول له:

دعني أقول، الدارجة لغة نظيفة ومحترمة يا ماحي وبنت الأصل

وكمحامي عن الدارجة شرع في استدعاء مفردات من العربية تلاعبت بها الدارجة

گعد، سلْتْ الخ

بدأ يتحدث عن طلب تقدم به شخصيا ضمن رابطة الشعر سنة 1996 لإدراج قصائد زجلية في مقررات النصوص الأدبية

أنت مجهول يا ماحي، أنت تحلم، الأمر يحتاج إلى مؤسسة

لست بمفردي يا غزلي، قلتُ لك الرابطة هي من تكفلت

حسنا، لكنكم لم تحاولوا مرة ثانية، كانت محاولة واحدة وانتهى الأمر. ومهما يكن من أمر فإن ما قمتم به حركة احتجاجية جيدة

لا، ما قمنا به ليس احتجاجا،  ليس حركة احتجاجية، الشيء الذي فعلناه هو تقديم طلب فحسب

أشرع في شرح الفرق بين تقديم الطلب والاحتجاج، مفترضا أن السيد ماحي يتوهم الاحتجاج كأي شيء عنيف، ينتهي بالفوضى والموت، كنت أظنه يستمع بعناية، فقرة فقرة وجملة جملة، لكني أدركت أنه كعالق في الظلام، يسمع ولا يسمع، كل ما أتفوه به مألوف ومعروف لديه،  أبدو له أكرر جملا طويلة جدا ومملة…

يقاطعني:

عارف عارف..

ولديلكب، عامل نفسه عارف كل شيء، كل مدينة وقرية وحجر وأوراق الشجر وأي رجل وطفل وكل مزرعة ومشتل وزهرة ومزرعة،  كأنه يقول باراكا من الهضرة أيها اللعين،(كفى ثرثرة) تكفي الفكرة الكبيرة كلمات قليلة

أنظر بالاتجاه البعيد وأغير الموضوع بلازمة التسليك الشهيرة

أيه، آش كتعاود آلماحي؟

كنت عند سي حسن عطاري Hassan Atari إننا نلتقي في مقهى الرافعي، السيد يشيد بك

آه سي حسن كان عندي قبيل أيام. ألا يجلس في مقهى فيخرة؟

أتصرف كما لو كنتُ سَميا للسيد حسن عطاري في العمر بعدما أخبرني بأن السيد حسن يُشيد بي،  وأحكي له عن  قصة حدثت لي معه، حين ألف مقطوعة قصيرة مفهومة بيد أنه دس من خلالها مُفردة غريبة، لْقْلْمْ اْرْزْمْ،  هي كل ما بقي عالقا في رأسي،  مع الوقت ننسى كل شيء ونتذكر الغريب

: الماحي يتذمر من الكلمات المستعملة في الزجل

بعض الزجالين لا يبالون بالمتداول، أنا ضد  استعمال مفردات غريبة

– لا بأس يا ماحي طالما سيشرحها في هامش لطيف

– المتلقي يقرأ النص،  النص جميل بصوره وبلاغته وأفكاره لكنه في النهاية يتعثر أمام مفردة غريبة قديمة مهجورة ما عادت متداولة،  مفردة وحيدة كفيلة بتدمير النص كله عندما لا تُفهم

– هل لك أن تعرفني على هذه الصورة الزجلية، لْقْلْمْ اْرْزْمْ ؟

كنت أظن أنه سيتفحصني بنظراته كما فعل السيد حسن حين سألته عن تفسير للكلمة فتفحصني بنظرات أشبه بنظرات احتقار،  بيد أن السيد ماحي تجاوز أي محاولة للتعالي وإظهار التفوق وقال:

لْقْلْمْ اْرْزْمْ،  لقلم جف.

زجال يفهم زجال.  لهلا يخطينا شعراء ومثقفين

ينتفض. يصب اللعنة على المثقفين  وحالة الفصام الجلدي بين المسطور المكتوب والمنطوق وبين المعمول. ما يكتبونه بعيد مجريات ما يتصرفون به

أنت المثقف المبدئي الوحيد في الكون يا ماحي. بهكذا ستعيش خارج الزمن والمكان إلى الأبد

نعيش دنيا واحدة  فلماذا أغير جلدي يا غزلي.

خمنتُ أن الرجل لديه مشكلة مع المثقفين أودت به إلى اكتساب وجه صحيح ورأس قاسح غير قابل للمرونة أو العزف على جميع الأوتار، وأودت بجسمه إلى فقدان الكثير من اللحم

في أثناء ذلك،  كانت تنحني إحدى الزبونات على الطاولة، ومن خلال فتحة القميص يتبدى جزء لا بأس به من النهود، جزء فقط، أود لو تستمر في الانحناء أكثر، أود لو تتبدى الكتلة الأكبر من اللحم لأكتفي بالتأمل والتشهي وأنسى الماحي

يحضر الفكاهي محمد بوساتي Mohamed Boussati  مرتديا تي شورت أبيض بأكمام عارية رسمت عليه خارطة إفريقيا مع شورط صيفي الى الركبة،  أداعبه:

أنت مهووس بافريقا فيما يبدو

– المرة القادمة أضع صورة الماحي،  أطبع الصورة على تيشورت أبيض في حفل توقيع كمفاجأة للرجل

– اِحسبني معك يا بوساتي. سيكون محظوظا هذا اللعين. لكن لا جدوى،  سيظل ساخطا مهما فعلنا

ينصرف البوساتي، مصحوبا بالسيد ماحي

ببساطة كان الماحي يبحث عن أي شخص يعرفه يجلس معه بعض الدقائق، وشخص آخر  يكمل به الطريق إلى مقهى الرافعي

الكاتب محمد غزلي

(يتبع)

شاهد أيضاً

من وحي الذاكرة: الحلقة الثانية حول الزجال إدريس بلعطار

من وحي الذاكرة: بقلم الكاتبة حبيبة زوغي الكتابة شكل من أشكال التواصل بين البشر، فهي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *