الرئيسية / الرئيسية / أخلاق المصطافين بشواطئ الجديدة …. بين الأمس واليوم

أخلاق المصطافين بشواطئ الجديدة …. بين الأمس واليوم

حسن فاتح

في عز شهر أغسطس، تصاعد لهيب الحر بدرجاته العليا، فأضحى الناس يبحثون عن الظل كالثعابين، لم أعد احتمل جدران منزلي المشيد بالطوب المغشوش، لا يحميني لا من الحر ولا من القر، فتحت نافذتي الغربية المشيدة سرا، بمساعدة مقدم الحومة، فهزتني روائح البحر العطرة، كوكتيل بين الطحالب المتخمرة ب”البشكيرات”، ورذاذ البحر الرطب المالح البارد، حملته رياح غربية رفقا بي لأقاوم موجات الصهد العجيبة، نزعت منديل البحر من على الحبل، وهرعت مسرعا في اتجاه شاطئ الحوزية أو “التيطانيك” كما يحلو للجديديين تسميته.

حينما وطأت قدمي هذا البحر، صدمت لهول المشهد الذي أمامي، وكأن دوارا قرويا تنقل بقدرة قادر على ضفافه، أكوام من البشر الزاحفة، بمطابخهم وحيواناتهم وأفرشتهم، ثلة منهم اجتمع على طنجرة الضغط المحشوة بالمرق والقديد، وثلة ثاني على مشاوي السردين والذرة، وثلة أخير اقتصر على توزيع بطيخة دكالية “مفرشخة”.

ولصنع الظل تم ابتكار أشكال هندسية بأغطية الشتاء الدافئة، بطانيات وألحفة مزركشة وملونة، تم رتقها فيما بينها لصنع شبه خيم او نصف مظلات تقيهم من أشعة الشمس الحارقة، وحين تطل عليها من فوق تبدو لك كخيم الهنود الحمر تتسلل منها أدخنة الطهي والشواء.

أما وسط مياه البحر فتبدو لك مخلوقات غريبة تتنطط فوق بعضها البعض، أجسام ثخينة وعوجاء تتقاذفها الامواج بثياب النوم او المنازل، وبكثرتهم تعكر صفو المياه، لتطفو على سطحه بقع داكنة كبرك البجع، قليل من هؤلاء في المياه وكثير منهم تتشابك لعبهم بين كرة القدم والكرة الطائرة ولعب بدائية على الرمال.

حين يدنو وقت المساء منهم يهم الكل بالمغادرة، يتسابقون وكأن برحيل قرص الشمس ستخبو أرواحهم عن الحياة، مخلفين وراءهم أثار الكوانين وبقايا الأكل البشري، من عظام دجاجة تم افتراسها، أو أشواك سمك مشوي، وكثير من قشور البطيخ وثمار الصبار، إضافة الى حفاظات أطفالهم المتعفنة، تلك هي مخلفات غزو سكان مناطق الشمس القريبة.

حين التقطت عيناي تلك المشاهد المرعبة أعلنت انسحابي باكرا، فحرمت نفسي من متعة برودة البحر، وعدت متحسرا على ما ضاع من شاطئ هذه المدينة العريقة نظافة وتمدنا، فحتى هذا الفضاء الجميل لم ينجو من سلوكات البشر التثارية، وبينما أنا أزحف نحو ظل شجرة “الاروكاريا” الضخمة، لأفرغ زفيري المتسمم والمتعصب، بدأ شريط الماضي يتسارع بمخيلتي، حول ذكريات شواطئ الجديدة المتمدنة والمتحضرة، ورمالها النظيفة الذهبية.

كان أول ما يشد انتباه زائر البحر، تلك اللوحة الطويلة العريضة عند المدخل، مسطر بها القانون الداخلي للشاطئ، إرشادات ونصائح للمصطاف، كعلامات المد والجزر البحري، أعلام السباحة الملونة بين الأبيض والأحمر والاسود، التي تشير إلى إمكانية العوم أو المنع، ومعلمو السباحة بأجسامهم المتكاملة وهندامهم المحترم، لا يتجاوزون حدود مهمتهم تحت إشراف اللاعب الدولي “الصمام” رحمه الله، كما لا يحق للزائر أن يتجول عند الشاطئ بملابسه العادية، او أن يتركها ظاهرة على منديله المفروش على الرمال، ولا يحق للمصطاف كذلك مغادرة البحر بهندام السباحة، وإلا فإن دوريات الشرطة بلباسهم “الكاكي” آنذاك تكون في انتظاره، كما يمنع منعا كليا لعب كرات الطائرة أو القدم أو المضرب عند المد البحري، تحت طائلة حجز الكرة نهائيا، ويمنع أيضا مصاحبة الحيوانات الاليفة، أو تناول وجبات الطعام على الشاطئ، وكل مخالفة يؤدي عنها صاحبها غرامة مالية.

لقد كان هناك انسجام كبير بين المصطافين وشواطئ مدينة الجديدة، تكامل وتناسق بين الأخلاق والشكل واللون، تناغم في شكل المظلات والمناديل وملابس السباحة، بل وحتى في البنيات الجسمانية المتكاملة، يتجول امامك المصطافون بألبسة رياضية او خاصة بالسباحة من آخر صيحة، وكأنك أمام مشهد سينمائي موزعة ادواره بشكل دقيق ورائع.

من جهة أخرى كان شاطئ دوفيل وشاطئ المدينة “البلايا” مجهز بكافة تجهيزات الاصطياف، من غرف، مظلات، رشاشات، ملاعب رياضية، مقاهي، مرقص، مستودعات ملابس، دكاكين مختلفة تجارتها، تفوح منها روائح الطهو كالاسفنج الحلو بالسكر أو البطاطس المقلية أو الفشار.

كانت شواطئ الجديدة نظيفة وجميلة، يخجل الزائر لها بأن يرمي عقب سيجارة أو قشرة لب على رمالها، لقد كان فضاء لا يلجه سوى من يحترمه، وقوانينه تفرض الانضباط على مصطافيه.

شاهد أيضاً

بين مطرقة الحقوقي وسندان البوز تاه عزيز غالي

لم اكن اريد أن أدخل في هذا السجال العقيم لان بكل بساطة ليس كل الأشياء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *