الكتابة شكل من أشكال التواصل بين البشر، فهي فعل تبادل الرسائل بتوظيف الرموز المكتوبة ولها أحيانا مفعول إكلينيكي يسهم في التصالح مع الماضي، حيث نكتب لاستحضار الزمن الجميل و الطفولة، نكتب لنقول أننا مررنا من هنا، وها نحن نترك االأثر.
لسنوات عدة و أنا أقتنص بورتريهات لشخصيات عامة وأخرى عادية، لشخصيات تعيش أو عاشت بيننا أو معنا، وجوه تراقص النبض اليومي وضغوط الحياة وهلم قسمات وملامح وجوه غيبها الموت وأخرى ما تزال تعيش بين ظهرانينا. أشخاص تركوا أثرا جميلا أو رسموا موقفا ظل بالذاكرة، تفردوا وتميزوا بفعل أو أفعال تجعلنا نهتم بهم ونعيد استحضارهم بفعل الكتابة.
وفي هذا الصدد نورد ثالث بورتريه حول الأستاذة مدام باحباح:
كنت في الصف الثالث الابتدائي، حينما أهدتني الحياة هذه السيدة لتكون معلمتي، بكل ما تحمل الكلمة من عمق ومعان.. مدام باحباح امرأة طويلة القامة، بيضاء البشرة كالثلج.. شعرها أسود مسبسب، كانت تشبه الممثلات المصريات، بالأسود والأبيض، في طريقة تسريحة الشعر، وكيفية اللبس.. أنيقة حد الدهشة.. لها صوت ميزها عن باقي المعلمات.. عشقت التعليم، فكانت تدرسنا بحب وشغف.. كان التدريس، بالنسبة لها ولكثير من مجايليها، رسالة نبيلة..
علمتنا كيف ننطق حروف لغة موليير دونما خطأ. كل حرف له صوت. اكتشفت معها تفكيك الحرف، ثم صوت الحرف، ومعنى الحروف حينما تنصهر لتصبح كلمة..
كانت، عدة مرات، تستغفلنا لنستظهر جدول الضرب على الألواح. ذات مرة، أدمت يد تلميذة لم تحفظ الجدول.. جدول الضرب يحفظ، وحب الوطن نربى عليه. لا نحفظه، لكننا نرضعه وحليب الأم.. تعلمنا عشق الوطن ونحن أطفال، تعلمنا كيف نحب الحياة، وكيف نعشق القمر. بعد قراءة النص بصوت مدام باحباح، كنت أول من يقرأ. كنت وقتها أحس بإحساس غريب، وكلما عدت للبيت، أردد الأناشيد التي حفظنا.. كان خالي الأصغر، مبارك، رحمها الله ، يسجل الأناشيد على آلة التسجيل و حينما أسمع صوتي، أنتشي، وأفرح فرح الأطفال السعداء..
ما أجمل الطفولة ونحن بين يدي معلمين ومعلمات يرسمون طريقنا للعلم و للتحصيل . مرة أمرتنا معلمة اللغة العربية بإحضار “الصوف والثوب….” للاستفادة من الأعمال اليدوية. أخبرت والدتي، وكانت تحلم بأن أتقن الكتابة والقراءة، فقالت لي بأنني أذهب للمدرسة للقراءة، لا لتعلم التريكو..
صفعت معلمة اللغة العربية بالقول دونما احتساب للعاقبة.. طلبت مني أن أحضر والدتي، فاجأتني بالطلب. خرجت من المدرسة في اتجاه البيت، وعيني بحر من الدموع.. وصلت قبالة دار الريفي، فعزمت على العدول عن الذهاب إلى ييتنا، لكنني قاومت تلك الرغبة، وأتممت السير. طرقت الباب حد الكسر دون جواب.. كان الصمت يخيم على المكان، عدت أدراجي، دخلت إلى المدرسة. وأنا في اتجاه القسم، التقيت مدام باحباح، سألتني عن سر بكائي السخي، أخبرتها بما وقع، فرافقتني إلى القسم، وحسمت الأمر مع المعلمة. فأعفيت بعدها من الأعمال اليدوية.. كانت تتقن التعليم، وتتقن تلقين الدرس، وتحبيب الحياة للناشئة..
و أنا بالصف الإعدادي كنت أحتل الرتبة الأولى في مادة الفرنسية و أحاول ألا أكون الأخيرة في اللغة العربية .لو تعرفين مدام باحباح، لقد سكنت بلغة موليير، لم تعد الكلمات تستهويني لفك معانيها، بل صارت اللغة وجهة نظر، غدت طريقة تفكير، وزجاجا عبره أطل على الدنيا..